بسم الله الرحمن الرحيم
وحدة العقل و الكون، في الآفاق و الأنفس
بقلم: د. خضر محمد الشيباني
تلخيص: مَعين يحيى بن جنيد
لقد اتفق علماء الطبيعة و ما انبثق عنها من تطبيقات على فرضية محورية بها يستقيم العلم بما فيه من استنتاجات و قوانين. تلكم الفرضية هي أن استقراءاتنا للطبيعة عبر تجاربنا المحدودة في الزمان و المكان، و ما تمخض عنها من قوانين و نظريات؛ قابلة للتعميم لتشمل كل الزمان و المكان. و هنا سنتوقف أمام هذه الفرضية البديهية و ما يترتب عليها من فوائد.
لعبة العلماء:
إن اللعبة التي يتقنها العلماء تتمثل في خطوات إجرائية منضبطة نوجزها فيما يلي:
1- جمع المعلومات، و استقائها من رافد الكون، و إجراء التجارب حولها.
2- تجريد الظواهر المستقاة عن الشوائب الدخيلة.
3- تنظيم الملاحظات و البيانات في تنسيق مرتب و تصنيف دقيق.
4- استقراء مبادئ عامة من هذا التصنيف و الخلوص إلى نماذج و قوانين تتجاوز حدود الزمان و المكان الخاص، و دمج كل ذلك في نظريات متكاملة بالاستعانة بالمنطق الرياضي، و تراكم الخبرة التجريبية.
هذه الخلطة السحرية هي التي أنتجت –و ما زالت– ذلك الصرح العلمي الشامخ. و من البديهي أن الذي وراء هذا النجاح هو (المنهج العلمي).
إن هذه الخطوات التي استطاعت أن تفك بعض رموز (الكون) هي من إنتاج (العقل البشري) و لا أدل على ذلك من تلك الثقة في تحقيق الفهم لظواهر الكون.
طرفا القضية: العقل و الكون.
يدرك العاملون في مجال (الاتصالات) ضرورة أن تكون الدوائر الكهربية و الإلكترونية في (جهاز البث) متفقة و متوائمة مع الدوائر المناظرة لها في (جهاز الاستقبال)، و بالتالي فإن (الموجات الكهرومغناطيسية) المنطلقة من جهاز البث حاملة المعلومات؛ سيستقبلها (جهاز الاستقبال) بصدر رحب كما هي دون تشويش أو تغيير، و بالتالي يتسنى معرفة المعلومات و فهم فحواها.
و إذا تأملنا البناء العلمي فسنعلم أن الكون ما هو إلا إشارات و رموز مبثوثة في كل مكان تحمل بين طياتها الحقائق و المعلومات، و لذا فكي يتم فك تلك الرموز و الشفرات فهناك حاجة إلى (جهاز استقبال) حساس و متوائم مع طبيعة هذه المعلومات و مصدر بثها.
و بهذا يتضح لنا أننا نعيش في كون قابل للإدراك و المعرفة، إذ أن عقل الإنسان بأدواته المعرفية قادر على النظر و البحث في شتى جوانب الكون.
جهاز الاستقبال:
يقول عالم الرياضيات الشهير هنري بوانكاريه: "العلم هو بناء من الحقائق كما أن المنزل هو بناء من الحجارة، و لكن مجموعة من الحقائق ليست علما كما أن أكواما من الحجارة ليست منزلا" و التركيز هنا على مصطلح (البناء). و هذا يعني أن جهاز الاستقبال (العقل البشري)
لا يتوقف عند حد الاستقبال و حصر المعلومة فقط، بل يتجاوز ذلك في عملية إبداعية ليقوم بثلاث مهمات إضافية:
• التنبؤ بحقائق غير معروفة و نتائج جديدة.
• القدرة على التخيل الفائق و التصورات التنظيرية الباهرة.
• التوجه التوحيدي بين الحقائق و النظريات العلمية.
النتائج المنطقية:
إن هذه (التوليفة) الخاصة للعقل البشري في استقباله للإشارات الكونية، و ذلك التّوق المعرفي كامنين غريزيا، و هذا يجعلنا نجزم أن (العقل) غاية تنسجم مع مكونات (الكون) و غاياته، و لا بد أن يكون هناك تدبير محكم فرض هذه المواءمة البديعة، و لو كان الأمر مصادفة لتضاربت الإرادات.
إن الثقة بتلك الموائمة و بالتالي الثقة في الاستنتاجات و القوانين التي انبثقت عنها دون التخوف من التناقض أو التهيب من الانتكاس لدليل على أن هذا العقل هو جزء لا يتجزأ من هذا الكون و مظهرا من وحدة كبرى مهيمنة في كل زمان و مكان. فالكون هو (الآفاق) و الذات البشرية هي (الأنفس) و كل ذلك يتفاعل و يتقاطع في تناغم تام و صدق الحق عز و جل: "سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" [فصلت : 53].
و كذلك فإنه بالنظر إلى القرآن نجد تلك الإشارات المتعددة لأولي الألباب، و مطالبتهم بالتفكر و التدبر؛ تدل قطعا على تجانس هذا العقل مع مفردات الكون في وحدة أصيلة ليكون دليلا ناصعا و قادرا على التحليل و الاستيعاب و الفهم، و صدق الحق عز و جل: "إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب" [آل عمران : 190].